فصل: ذكر ملك عماد الدين زنكي مدينة حلب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قتل معين الملك أبو نصر أحمد بن الفضل، وزير السلطان سنجر، قتلته الباطنية، وكان له في قتالهم آثار حسنة، ونية صالحة، فرزقه الله الشهادة.
وفيها ولى السلطان شحنكية بغداد مجاهد الدين بهروز، لما سار أتابك زنكي إلى الموصل.
وفيها رتب الحسن بن سليمان في تدريس النظامية ببغداد.
وفيها أوقع السلطان سنجر بالباطنية في ألموت، فقتل منهم خلقاً كثيراً، قيل كانوا يزيدون على عشرة آلاف نفس.
وتوفي هذه السنة علي بن المبرك أبو الحسن المقري، المعروف بابن الفاعوس، الحنبلي، ببغداد، في شوال، وكان صالحاً.
وفي شوال توفي محمد بن عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد أبو الحسن بن أبي الفضل الهمذاني الفرضي، صاحب التاريخ. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة:

.ذكر ملك عماد الدين زنكي مدينة حلب:

في هذه السنة، أول المحرم، ملك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة حلب وقلعتها، ونحن نذكر كيف كان سبب ملكها، فنقول: قد ذكرنا ملك البرسقي لمدينة حلب وقلعتها سنة ثماني عشرة، واستخلافه بها ابنه مسعوداً، ولما قتل البرسقي سار مسعود عنها إلى الموصل وملكها، واستناب بحلب أميراً اسمه قومان، ثم إنه ولى عليها أميراً اسه قتلغ أبه، وسيره بتوقيع إلى قومان بتسليمها، فقال: بيني وبين عز الدين علامة لم أرها، ولا أسلم إلا بها، وكانت العلامة بينهما صورة غزال، وكان مسعود بن البرسقي حسن التصوير، فعاد قتلغ أبه إلى مسعود، وهو يحاصر الرحبة، فوجده قد مات، فعاد إلى حلب مسرعاً.
وعرف الناس موته، فسلم الرئيس فضائل بن بديع البلد، وأطاعه المقدمون به، واستنزلوا قومان من القلعة، بعد أن صح عنده وفاة صاحبه مسعود، وأعطوه ألف دينار، فتسلم قتلغ القلعة في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين، فظهر منه بعد أيام جور شديد، وظلم عظيم، ومد يده إلى أموال الناس، لا سيما التركات، فإنه أخذها، وتقرب إليه الأشرار، فنفرت قلوب الناس منه.
وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي كان قديماً صاحبها، فأطاعه أهلها، وقاموا ليلة الثلاثاء ثاني شوال فقبضوا على كل من كان بالبلد من أصحاب قتلغ أبه، وكان أكثرهم يشربون في البلد صبخة العيد، وزحفوا إلى القلعة، فتحصن قتلغ أبه فيها بمن معه، فحصروه، ووصل إلى حلب حسان صاحب منبج، وحسن صاحب بزاعة، لإصلاح الأمر فلم ينصلح.
وسمع الفرنج بذلك، فتقدم جوسلين بعسكره إلى المدينة، فصونع بمال، فعاد عنها، ثم وصل بعده صاحب أنطاكية في جمع من الفرنج، فخندق الحلبيون حول القلعة، فمنع الداخل والخارج إليها من ظاهر البلد، وأشرف الناس على الخطر العظيم إلى منتصف ذي الحجة من السنة.
وكان عماد الدين قد ملك الموصل والجزيرة، فسير إلى حلب الأمير سنقرجة دراز، والأمير حسن قراقوش، وهما من أكابر أمراء البرسقي، وقد صاروا معه في عسكر قوي، ومعه التوقيع من السلطان بالموصل، والجزيرة، والشام، فاستقر الأمر أن يسير بدر الدولة بن عبد الجبار وقتلغ أبه إلى الموصل إلى عماد الدين، فسارا إليه، وأقام حسن قراقوش بحلب والياً عليها ولاية مستعارة، فلما وصل بدر الدولة وقتلغ أبه إلى عماد الدين أصلح بينهما، ولم يرد واحداً منهما إلى حلب، وسير حاجبه صلاح الدين محمداً الياغيسياني إليها في عسكر، فصعد القلعة، ورتب الأمور، وجعل فيها والياً.
وسار عماد الدين زنكي إلى الشام في جيوشه وعساكره، فملك في طريقه مدينة منبج وبزاعة، وخرج أهل حلب إليه، فالتقوه، واستبشروا بقدومه، ودخل البلد واستولى عليه، ورتب أموره، وأقطع أعماله الأجناد والأمراء، فلما فرغ من الذي أراده قبض على قتلغ أبه وسلمه إلى ابن بديع، فكحله بداره بحلب، فمات قتلغ أبه، واستوحش ابن بديع، فهرب إلى قلعة جعبر واستجار بصاحبها، فأجاره.
وجعل عماد الدين في رئاسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق، ولولا أن الله تعالى من على المسلمين بملك أتابك ببلاد الشام لملكها الفرنج لأنهم كانوا يحصرون بعض البلاد الشامية، وإذا علم ظهير الدين طغتكين بذلك جمع عساكره وقصد بلادهم وحصرها وأغار عليها، فيضطر الفرنج إلى الرحيل لدفعه عن بلادهم، فقدر الله تعالى أنه توفي هذه السنة، فخلا لهم الشام من جميع جهاته من رجل يقوم بنصرة أهله، فلطف الله بالمسلمين بولاية عماد الدين، ففعل الفرنج ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر قدوم السلطان سنجر إلى الري:

في هذه السنة خرج السلطان سنجر من خراسان إلى الري في جيش كثير.
وكان سبب ذلك: أن دبيس بن صدقة لما وصل إليه هو والملك طغرل، على ما ذكرناه، لم يزل يطمعه في العراق، ويسهل عليه قصده، ويلقي في نفسه أن المسترشد بالله والسلطان محمود متفقان على الامتناع منه، ولم يزل به حتى أجابه إلى المسير إلى العراق، فلما ساروا وصل إلى الري، وكان السلطان محمود بهمذان، فأرسل إليه السلطان سنجر يستدعيه إليه لينظر هل هو على طاعته أم قد تغير على ما زعم دبيس، فلما جاءه الرسول بادر إلى المسير إلى عمه، فلما وصل إليه أمر العسكر جميعه بلقائه، وأجلسه معه على التخت، وبالغ في إكرامه، وأقام عنده إلى منتصف ذي الحجة، ثم عاد السلطان سنجر إلى خراسان، وسلم دبيساً إلى السلطان محمود، ووصاه بإكرامه وإعادته إلى بلده، ورجع محمود إلى همذان ودبيس معه، ثم سارا إلى العراق، فلما قاربا بغداد خرج الوزير إلى لقائه، وكان قدومه تاسع المحرم سنة ثلاث وعشرين.
وكان الوزير أبو القاسم الأنساباذي قد قبض السلطان محمود عليه، فلما اجتمع بالسلطان سنجر أمر بإطلاقه فأطلقه، وقرره سنجر في وزارته ابنته التي زوجها بالسلطان محمود، فلما وصل معه إلى بغداد أعاده محمود إلى وزارته في الرابع والعشرين من المحرم، وهي وزارته الثانية.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ثامن صفر توفي أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وهو مملوك الملك تتش بن ألب أرسلان، وكان عاقلاً، خيراً، كثير الغزوات والجهاد للفرنج، حسن السيرة في رعيته، مؤثراً للعدل فيهم، وكان لقبه ظهير الدين، ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الملوك بوري، وهو أكبر أولاده، بوصية من والده بالملك، وأقر وزير أبيه أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته.
وفيها، مستهل رجب، توفي الوزير جلال الدين أبو علي بن صدقة، وزير الخليفة، وكان حسن السيرة، جميل الطريقة، متواضعاً، محباً لأهل العلم، مكرماً لهم، وله شعر حسن، فمنه في مدح المسترشد بالله:
وجدت الورى كالماء طعماً ورقة، ** وأن أمير المؤمنين زلاله

وصورت معنى العقل شخصاً مصوراً، ** وأن أمير المؤمنين مثاله

ولولا طريق الدين والشرع والتقى ** لقلت من الإعظام جل جلاله

وأقيم في النيابة بعده شرف الدين علي بن طراد الزينبي، ثم جعل وزيراً، وخلع عليه آخر شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وعشرين ولم يزِر للخلفاء من بني العباس هاشمي غيره.
وفيها هبت ريح شديدة اسودت لها الآفاق، وجاءت بتراب أحمر يشبه الرمل، وظهر في السماء أعمدة كأنها نار، فخاف الناس، وعدلوا إلى الدعاء والاستغفار، فانكشف عنهم ما يخافونه. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة:

.ذكر قدوم السلطان محمود إلى بغداد:

في هذه السنة، في المحرم، قدم السلطان محمود بغداد، بعد عوده من عند عمه السلطان سنجر، ومعه دبيس بن صدقة، ليصلح حاله مع الخليفة المسترشد بالله، فتأخر دبيس عن السلطان، ثم دخل بغداد، ونزل بدار السلطان، واسترضى عنه الخليفة، فامتنع الخليفة من الإجابة إلى أن يولي دبيس شيئاً من البلاد، وبذل مائة ألف دينار لذلك.
وعلم أتابك زنكي أن السلطان يريد أن يولي دبيس الموصل، فبذل مائة ألف دينار، وحضر بنفسه إلى خدمة السلطان، فلم يشعر السلطان به إلا وهو عند الستر، وحمل معه الهدايا الجليلة، فأقام عند السلطان ثلاثة أيام، وخلع عليه، وأعاده إلى الموصل.
وخرج السلطان يتصيد، فعمل له شيخ المزرفة دعوة عظيمة امتار منها جميع عسكر السلطان، وأدخله إلى حمام في داره، وجعل فيه عوض الماء ماء الورد، فأقام السلطان إلى رابع جمادى الآخرة، وسار عنها إلى همذان، وجعل بهزور على شحنكية بغداد، وسلمت إليه الحلة أيضاً.

.ذكر ما فعله دبيس بالعراق وعود السلطان إلى بغداد:

لما رحل السلطان إلى همذان ماتت زوجته، وهي ابنة السلطان سنجر، وهي التي كانت تعنى بأمر دبيس، وتدافع عنه، فلما ماتت انحل أمر دبيس.
ثم إن السلطان مرض مرضاً شديداً، فأخذ دبيس ابناً له صغيراً وقصد العراق، فلما سمع المسترشد بالله بذلك جند الأجناد وحشد، وكان بهروز بالحلة، فهرب منها، فدخلها دبيس في شهر رمضان، فلما سمع السلطان الخبر عن دبيس أحضر الأميرين قزل، والأحمديلي، وقال: أنتما ضمنتما دبيساً مني، وأريده منكما. فسار الأحمديلي إلى العراق، إلى دبيس، ليكف شره عن البلاد، ويحضره إلى السلطان، فلما سمع دبيس الخبر أرسل إلى الخليفة يستعطفه، ويقول: إن رضيت عني فأنا أرد أضعاف ما أخذت، وأكون العبد المملوك، فتردد الرسل ودبيس يجمع الأموال، والرجال، فاجتمع معه عشرة آلاف فارس، وكان قد وصل في ثلاثمائة فارس، ووصل الأحمديلي بغداد في شوال، وسار في أثر دبيس.
ثم إن السلطان سار إلى العراق، فلما سمع دبيس بذلك أرسل إليه هدايا جليلة المقدار، وبذل ثلاثمائة حصان منعلة بالذهب، ومائتي ألف دينار، ليرضى عنه السلطان والخليفة، فلم يجبه إلى ذلك، ووصل السلطان إلى بغداد في ذي القعدة، فلقيه الوزير الزينبي وأرباب المناصب، فلما تيقن دبيس وصوله رحل إلى البرية، وقصد البصرة وأخذ منها أموالاً كثيرة، وما للخليفة والسلطان هناك من الدخل، فسير السلطان إثره عشرة آلاف فارس، ففارق البصرة ودخل البرية.

.ذكر قتل الإسماعيلية بدمشق:

قد ذكرنا فيما تقدم قتل إبراهيم الأسداباذي ببغداد، وهرب ابن أخته بهرام إلى الشام، وملكه قلعة بانياس، ومسيره إليها، ولما فارق دمشق أقام له بها خليفة يدعو الناس إلى مذهبه، فكثروا وانتشروا، وملك هو عدة حصون من الجبال منها القدموس وغيره، وكان بوادي التيم، من أعمال بعلبك، وأصحاب مذاهب مختلفة من النصيرية، والدرزية، والمجوس، وغيرهم، وأميرهم اسمه الضحاك، فسار إليهم بهرام سنة اثنتين وعشرين وحصرهم وقاتلهم، فخرج إليه الضحاك في ألف رجل، وكبس عسكر بهرام فوضع السيف فيهم، وقتل منهم مقتلة كثيرة، وقتل بهرام، وانهزم من سلم، وعادوا إلى بانياس على أقبح صورة.
وكان بهرام قد استخلف في بانياس رجلاً من أعيان أصحابه اسمه إسماعيل، فقام مقامه، وجمع شمل من عاد إليه منهم، وبث دعاته في البلاد، وعاضده المزدقاني أيضاً، وقوى نفسه على ما عنده من الامتعاض بهذه الحادثة، والهم بسببها.
ثم إن المزدقاني أقام بدمشق عوض بهرام إنساناً اسمه أبو الوفاء، فقوي أمره وعلا شأنه وكثر أتباعه، وقام بدمشق، فصار المستولي على من بها من المسلمين، وحكمه أكثر من حكم صاحبها تاج الملوك. ثم إن المزدقاني راسل الفرنج ليسلم إليهم مدينة دمشق، ويسلموا إليه مدينة صور، واستقر الأمر بينهم على ذلك، وتقرر بينهم الميعاد يوم جمعة ذكروه، وقرر المزدقاني مع الإسماعيلية أن يحتاطوا ذلك اليوم بأبواب الجامع فلا يمكنوا أحداً من الخروج منه ليجيء الفرنج ويملكوا البلاد. فبلغ الخبر تاج الملوك، صاحب دمشق، فاستدعى المزدقاني إليه، فحضر، وخلا معه، فقتله تاج الملوك، وعلق رأسه على باب القلعة، ونادى في البلد بقتل الباطنية، فقتل منهم ستة آلاف نفس، وكان ذلك منتصف رمضان من السنة، وكفى الله المسلمين شرهم، ورد على الكافرين كيدهم.
ولما تمت هذه الحادثة بدمشق على الإسماعيلية خاف إسماعيل والي بانياس أن يثور به وبمن معه الناس فيهلكوا، فراسل الفرنج، وبذل لهم تسليم بانياس إليهم، والانتقال إلى بلادهم، فأجابوه، فسلم القلعة إليهم، وانتقل هو ومن معه من أصحابه إلى بلادهم، ولقوا شدة وذلة وهواناً، وتوفي إسماعيل أوائل سنة أربع وعشرين، وكفى الله المؤمنين شرهم.

.ذكر حصر الفرنج دمشق وانهزامهم:

لما بلغ الفرنج قتل المزدقاني والإسماعيلية بدمشق عظم عليهم ذلك، وتأسفوا على دمشق حيث لم يتم لهم ملكها، وعمتهم المصيبة، فاجتمعوا كلهم: صاحب القدس، وصاحب أنطاكية، وصاحب طرابلس، وغيرهم من الفرنج وقمامصتهم، ومن وصل إليهم في البحر للتجارة والزيارة، فاجتمعوا في خلق عظيم نحو ألفي فارس، وأما الراجل فلا يحصى، وساروا إلى دمشق ليحصروها.
ولما سمع تاج الملوك بذلك جمع العرب والتركمان، فاجتمع معهم ثمانية آلاف فارس، ووصل الفرنج في ذي الحجة، فنازلوا البلد، وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والإغارة على البلاد، فلما سمع تاج الملوك أن جمعاً كثيراً قد ساروا إلى حوران لنهبه، وإحضاره الميرة، سير أميراً من أمرائه، يعرف بشمس الخواص، في جمع من المسلمين إليهم، وكان خروجهم في ليلة شاتية، كثيرة المطر، ولقوا الفرنج من الغد، فواقعوهم، واقتتلوا، وصبر بعضهم لبعض، فظفر بهم المسلمون وقتلوهم، فلم يفلت منهم غير مقدمهم ومعه أربعون رجلاً، وأخذوا ما معهم، وهي عشرة آلاف دابة موقَرة، وثلاثمائة أسير، وعادوا إلى دمشق لم يمسسهم قرح. فلما علم من عليها من الفرنج ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، فرحلوا عنها شبه المنهزمين، وأحرقوا ما تعذر عليهم حمله من سلاح وميرة وغير ذلك، وتبعهم المسلمون، والمطر شديد، والبرد عظيم، يقتلون كل من تخلف منهم، فكثر القتلى منهم، وكان نزولهم ورحيلهم في ذي الحجة من هذه السنة.

.ذكر ملك عماد الدين زنكي مدينة حماة:

في هذه السنة ملك عماد الدين زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، مدينة حماة.
وسبب ذلك: أنه عبر الفرات إلى الشام، وأظهر أنه يريد جهاد الفرنج، وأرسل إلى تاج الملوك بوري بن طغتكين، صاحب دمشق، يستنجده، ويطلب منه المعونة على جهادهم، فأجاب إلى المراد، وأرسل من أخذ له العهود والمواثيق، فلما وصلت التوثقة جرد عسكراً من دمشق مع جماعة من الأمراء، وأرسل إلى ابنه سونج، وهو بمدينة حماة، يأمره بالنزول إلى العسكر، والمسير معهم إلى زنكي، ففعل ذلك، فساروا جميعهم، فوصلوا إليه، فأكرمهم، وأحسن لقاءهم، وتركهم أياماً.
ثم إنه غدر بهم، فقبض على سونج ولد تاج الملوك، وعلى جماعة الأمراء المقدمين، ونهب خيامهم وما فيها من الكراع، واعتقلهم بحلب، وهرب من سواهم، وسار من يومه إلى حماة، فوصل إليها وهي خالية من الجند الحماة الذابين، فملكها واستولى عليها، ورحل عنها إلى حمص، وكان صاحبها قرجان بن قراجة معه في عسكره، وهو الذي أشار عليه بالغدر بولد تاج الملوك، فقبض عليه، ونزل على حمص وحصرها، وطلب من قرجان صاحبها أن يأمر نوابه وولده الذين فيها بتسليمها، فأرسل إليهم بالتسليم، فلم يقبلوا منه، ولا التفتوا إلى قوله، فأقام عليها محاصراً لها، ومقاتلاً لمن فيها مدة طويلة، فلم يقدر على ملكها، فرحل عنها عائداً إلى الموصل، واستصحب معه سونج بن تاج الملوك ومن معه من الأمراء الدمشقيين.
وترددت الرسل في إطلاقهم بينه وبين تاج الملوك، واستقر الأمر على خمسين ألف دينار، فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، ولم ينتظم بينهم أمر.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ملك بيمند، صاحب أنطاكية، حصن القدموس من المسلمين.
وفي هذه السنة أيضاً وثب الإسماعيلية على عبد اللطيف بن الخجندي، رئيس الشافعية بأصبهان، فقتلوه، وكان ذا رئاسة عظيمة وتحكم كثير.
وفي هذه السنة توفي الإمام أبو الفتح أسعد بن أبي نصر الميهني، الفقيه الشافعي، مدرس النظامية ببغداد، وله طريقة مشهورة في الخلاف، وتفقه على أبي المظفر السمعاني، وكان له قبول عظيم عند الخليفة، والسلطان، وسائر الناس.
وفيها توفي حمزة بن هبة الله بن محمد بن الحسن الشريف العلوي، الحسني، النيسابوري، سمع الحديث الكثير، ورواه، ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وجمع مع شرف النسب شرف النفس والتقوى، وكان زيدي المذهب. ثم دخلت:

.سنة أربع وعشرين وخمسمائة:

.ذكر ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند من محمد خان وملك محمود بن محمد خان المذكور:

في هذه السنة، في ربيع الأول، ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند.
وسبب ذلك: أنه كان قد رتب فيها، لما ملكها أولاً، أرسلان خان محمد بن سليمان بن بغراجان داود، فأصابه فالج، فاستناب ابناً له يعرف بنصرخان، وكان شهماً، شجاعاً، وكان بسمرقند إنسان علوي، فقيه، مدرس، إليه الحل والعقد، والحكم في البلد، فاتفق هو ورئيس البلد على قتل نصر خان، فقتلاه ليلاً، وكان أبوه محمد خان غائباً، فعظم عليه واشتد، وكان له ابن آخر غائب في بلاد تركستان. فأرسل إليه واستدعاه، فلما قارب سمرقند خرج العلوي ورئيس البلد إلى استقباله، فقتل العلوي في الحال، وقبض على الرئيس.
وكان والده أرسلان خان قد أرسل إلى السلطان سنجر رسولاً يستدعيه، ظناً منه أن ابنه لا يتم أمره مع العلوي والرئيس، فتجهز سنجر وسار يريد سمرقند، فلما ظفر ابن أرسلان خان بهما ندم على استدعاء السلطان سنجر، فأرسل إليه يعرفه أنه قد ظفر بالعلوي والرئيس، وأنه وابنه على الطاعة، ويسأله العود إلى خراسان، فغضب سنجر من ذلك، وأقام أياماً، فبينما هو في الصيد إذ رأى اثني عشر رجلاً في السلاح التام، فقبض عليهم وعاقبهم، فأقروا أن محمد خان أرسلهم ليقتلوه، فقتلهم، ثم سار إلى سمرقند فملكها عنوة، ونهب بعضها، ومنع من الباقي، وتحصن منه محمد خان ببعض تلك الحصون، فاستنزله السلطان سنجر بأمان، بعد مدة، فلما نزل إليه أكرمه وأرسله إلى ابنته زوجة السلطان سنجر، فبقي عندها إلى أن توفي.
وأقام سنجر بسمرقند مدة حتى أخذ المال والسلاح والخزائن، وسلم البلد إلى الأمير حسن تكين، وعاد إلى خراسان، فلم يلبث حسن تكين أن مات، فملك سنجر بعده عليها محمود بن محمد خان بن سليمان بن داود، المقدم ذكره، وقيل إن السبب غير ما ذكرناه، وسيرد ذكره سنة ست وثلاثين للحاجة إلى ذكره هناك.

.ذكر فتح عماد الدين حصن الأثارب وهزيمة الفرنج:

لما فرغ عماد الدين زنكي من أمر البلاد الشامية، حلب وأعمالها، وما ملكه، وقرر قواعده، عاد إلى الموصل، وديار الجزيرة، ليستريح عسكره، ثم أمرهم بالتجهز للغزاة، فتجهزوا وأعدوا واستعدوا، وعاد إلى الشام، وقصد حلب، فقوي عزمه على قصد حصن الأثارب، ومحاصرته، لشدة ضرره على المسلمين.
وهذا الحصن بينه وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ، بينها وبين أنطاكية، وكان من به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية، حتى على رحى لأهل حلب بظاهر باب الجنان، بينها وبين البلد عرض الطريق، وكان أهل البلد معهم في ضر شديد، وضيق، كل يوم قد أغاروا عليهم، ونهبوا أموالهم. فلما رأى الشهيد هذه الحال صمم العزم على حصر هذا الحصن، فسار إليه ونازله.
فلما علم الفرنج بذلك جمعوا فارسهم وراجلهم، وعلموا أن هذه وقعة لها ما بعدها، فحشدوا وجمعوا، ولم يتركوا من طاقتهم شيئاً إلا استنفدوه، فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه، فاستشار أصحابه فيما يفعل، وكل أشار بالعود عن الحصن، فإن لقاء الفرنج في بلادهم خطر لا يدرى على أي شيء تكون العاقبة. فقال لهم: إن الفرنج متى رأونا قد عدنا من أيديهم طمعوا وساروا في أثرنا، وخربوا بلادنا، ولا بد من لقائهم على كل حال.
ثم ترك الحصن وتقدم إليهم، فالتقوا، واصطفوا للقتال، وصبر كل فريق لخصمه، واشتد الأمر بينهم، ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين، فظفروا، وانهزم الفرنج أقبح هزيمة، ووقع كثير من فرسانهم في الأسر، وقتل منهم خلق كثير، وتقدم عماد الدين إلى عسكره بالإنجاز، وقال: هذا أول مصاف عملناه معهم، فلنذقهم من بأسنا ما يبقى رعبه في قلوبهم، ففعلوا ما أمرهم، ولقد اجتزت بتلك الأرض سنة أربع وثمانين وخمسمائة ليلاً، فقيل لي: إن كثيراً من العظام باق إلى ذلك الوقت.
فلما فرغ المسلمون من ظفرهم عادوا إلى الحصن فتسلموه عنوة، وقتلوا وأسروا كل من فيه، وأخربه عماد الدين، وجعله دكاً، وبقي إلى الآن خراباً، ثم سار منه إلى قلعة حارم، وهي بالقرب من أنطاكية، فحصرها، وهي أيضاً للفرنج، فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم، وهادنوه، فأجابهم إلى ذلك، وعاد عنهم وقد استدار المسلمون بتلك الأعمال، وضعفت قوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع.

.ذكر ملك عماد الدين مدينة سرجي:

لما فرغ من أمر الأثارب وتلك النواحي، عاد إلى ديار الجزيرة، وكان قد بلغه عن حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، صاحب ماردين، وابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان، صاحب حصن كيفا، قوارص، فعاد إليهم، وحصر مدينة سرجي، وهي بين ماردين ونصيبين، فاجتمع حسام الدين، وركن الدولة، وصاحب آمد، وغيرهم، وجمعوا خلقاً كثيراً من التركمان بلغت عدتهم عشرين ألفاً، وساروا إليه، فتصافوا بتلك النواحي، فهزمهم عماد الدين وملك سرجي.
فحكى لي ولدي وقال: لما انهزم ركن الدولة داود قصد بلد جزيرة ابن عمر ونهبه، فبلغ الخبر إلى عماد الدين، فسار نحو الجزيرة، وأراد دخول بلد داود، ثم عاد عنه لضيق مسالكه، وخشونة الجبال التي في الطريق، وسار إلى دارا فملكها، وهي من القلاع في تلك الأعمال.

.ذكر وفاة الآمر وخلافة الحافظ العلوي:

في هذه السنة، ثاني ذي القعدة، قتل الآمر بأحكام الله أبو علي بن المستعلي العلوي، صاحب مصر، خرج إلى متنزه له، فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه، لأنه كان سيء السيرة في رعيته، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر، وعمره أربعاً وثلاثين سنة، وهو العاشر من ولد المهدي عبيد الله الذي ظهر بسجلماسة وبنى المهدية بإفريقية، وهو أيضاً العاشر من الخلفاء العلويين من أولاد المهدي أيضاً.
ولما قتل لم يكن له ولده بعده، فولي بعده ابن عمه الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله، ولم يبايع بالخلافة، وإنما بويع له لينظر في الأمر نيابة، حتى يكشف عن حمل إن كان للآمر فتكون الخلافة فيه، ويكون هو نائباً عنه.
ومولد الحافظ بعسقلان، لأن أباه خرج من مصر إليها في الشدة، فأقام بها، فولد ابنه عبد المجيد هناك، ولما ولي استوزر أبا علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي، واستبد بالأمر، وتغلب على الحافظ، وحجر عليه، وأودعه في خزانة، ولا يدخل إليه إلا من يريده أبو علي، وبقي الحافظ له اسم لا معنى تحته، ونقل أبو علي كل ما في القصر إلى داره من الأموال وغيرها، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن قتل أبو علي سنة ست وعشرين فاستقامت أمور الحافظ، وحكم في دولته، وتمكن من ولايته وبلاده.